من بين زوايا معتمة في غرفتها سمعت ذاك البكاء
عذب بكائها ممزوج بألم
ألمها يصل قلبي ويغتال عقلي
ويهدر دموعاً خوفاً عليها
قاومتها نعم قاومتُ تلك الدموع
واجبي كأم أن أمثل أمام ابنتي قوية لتستمد قوتها مني
ومع أن تلك القوة لم تعد أنوثتي تستطيع حملها
إلا أنني سأكسر أنوثتي وأغمسها بالقوة لتحيى أنوثة طفلتي الغالية
اقتربت منها دعوت ربي أن لا تشعر بصوتي المهزوز خوفاً عليها
أخذتها بحضني
وسألتها ما بكِ تبكين يا حبيبتي ؟؟
قالت لي : كم اشتقت لمنزلنا هناك
للعبتي الغافية تحت حطام منزلنا
لكوب الماء المنقوش عليه اسمي
لسريري المزركش بالورود
لما بين أشجارنا الخضراء أرجوحتي
لعصفور أخي الجميل الذي طالما أطعمته
أشتاق لأبي يا أمي
أشتاق لضمته الحنونة
للمسته الدافئة
أشتاق للحلوى التي كان يجلبها لي أنا
أشتاق لكلمته التي تلتمع فرحا في عينيه يا صغيرتي
أشتاق حتى بعد رحيله للنظر إلى قبره لزيارته
لأشكي له ألمي .. لأزرع جانب قبره ورود الياسمين التي يحبها وأنقش عليه شهيد الوطن
لألبوم صوري المحترق من نيران العدو
لصديقاتي .. لمدرستي وكتبي .. حتى معلماتي اللواتي طالما شكوت منهنّ لقد اشتقت إليهنّ
أمي أخبريني كيف أطفئ نار اشتياقي
لحظات صمت استجمعها لساني ولملمتْ عيوني دموعها بها
ثم ابتسمت بوجهها قائلة : أتذكرين يا صغيرتي عندما قرأتِ عبارة في الصحيفة
(( يا وطنناً يعيش فينا ))
كنتِ صغيرة لم يتجاوز عمرك الأربع سنوات
سألتِ : أمي الوطن كبير كيف يعيش فينا ونحن من نسكنه ؟؟
أجابكِ أبوكِ مبتسماً : دعيها لتكبري حتى تترجمي معناها على أوراق قلبك وبقلم حبك للوطن
ها أنتِ الآن كبرتِ ألم تفهمي ما تعنيه تلك العبارة؟؟؟
أجابتني : كنا نعيش بذاك الوطن ولم أفهم كيف يعيش فينا
والآن لا وطنَ نعيش فيه وعدم فهمي ما زال قائماً
ضممتها ضمة قوية
وقلت لها :
ذاك الوطن الذي يعيش فينا ها هو يعيش فيكِ يا صغيرتي
مازلتِ تذكرين منزلنا وتحنّين للعبتك
تشتاقين لحضن أبيكِ وترسمين بمخيلتكِ موقع قبره
يتردد في أذنيكِ صوت عصفور أخيكِ
وتذكرين مدرستك
وتحلمين بأرجوحتك
وفي النهاية كلها إن في الوطن
ذكريات تعيش داخلكِ يضمها الوطن وتخبئينه بذاكرتك
وتعيشين ذكرياته الحلوة بمخيلتكِ
ها هو وطنك الذي يحيا بقلبك
صغيرتي بيتنا تهدم وحطامه ما زال موجوداًسنبنيه غاليتي لا محال
مدرستك خلت من معلماتك وزميلاتك لكن اسمها ما زال أثره موجوداً وعلم بلادنا بها يرفرف
ألبوم صورك وإن احترق رماده وضع أثره
وأبوكِ وإن مات فقد امتزج جسده مع ثرى وطننا الغالي
ليس وطننا ببعيد وليست العودة له حلماً
إنما هو يحيا بداخلنا ذكريات ماضٍ جميلة وأملاً حاضراً مزدهراً
وحقيقة مستقبل أكيد بإذن الله
هيا هيا يا صغيرتي انهضي وأشعلي ضوء غرفتك لأرى عيونك الجميلة وابتسامتك الوردية
ونتأمل نجوم السماء من الشرفة كما اعتدنا أن نفعل يوميا
نهضت الوردتان .. أنثى لملمتْ دموعها .. هي تلك الطفلة تبتسم وتحاكي النجوم .. وأنثى تخفي دمعة صغيرة عن ابنتها لتكتمل أقصوصة قوتها التي قصتها لعقل طفلتها الحالم
الروابط المفضلة