إن النظر في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو كغالب القضايا العلمية والفكرية يكتنفه طرفان :
إفراط وتفريط والتوسط بين هذين الطرفين عادة ما يكون هو الأوفق والأقرب للصواب
فمن الخطأ والتقصير الظاهر عدم الاستفادة من حقائق العلم الحديث في تفسير كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم ، والأحاديث الصحيحة في السنة المطهرة
ونحن نؤمن أن خالق الكون ومنزل القرآن الكريم إله واحد ، فلا بد أن تتطابق التفاصيل الواردة فيهما ، والعلم الحديث خير معين على كشف هذا التطابق .
ومن الخطأ الظاهر أيضا المبالغة في هذا التوجه ،
وتحميل الآيات ما لا تحتمل من أوجه المجاز المخالفة للسياق
أو المخالفة لما ثبت في السنة المطهرة من تفسير هذه الآيات
أو التسرع في عرض الفرضيات والنظريات على أنها حقائق علمية .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره ، لا ننكر أن في القرآن أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة
لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي
حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة ، وهذا خطأ .
فنقول : إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات
والنظريات تختلف فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية
ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة
وهذه مسألة خطيرة جدًّا .
ولهذا اعتني في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات وبين دقيقها وجليلها
حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرهالكن علم الكون لم يأتِ على سبيل التفصيل .
ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي
وأن يشتغلوا به عما هو أهمإن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة لأن القرآن نزل بهذا
قال الله تعالى :
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) "
الذاريات 56
انتهى."
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " .
ولقد قرأنا مؤخرا عن بعض " معجزات " القرآن الكريم ، التي شملت العديد من الأشياء مثل المراحل الثلاثة للجنين ، ومدارات الكواكب ، .. الخ
ولقد لاحظنا ايضا في الاونة الاخيرة شُغف كثير من الناس بأنواع من الإعجازات في القرآن الكريم ، ومن هذه الأنواع " الإعجاز العددي "
فنشروا في الصحف والمجلات وشبكات الإنترنت قوائم بألفاظ تكررت مرات تتناسب مع لفظها
أو تساوى عددها مع ما يضادها كما زعموا في تكرار لفظة " يوم " ( 365 ) مرة ، ولفظ " شهر " ( 12 ) مرة
وهكذا فعلوا في ألفاظ أخرى نحو " الملائكة والشياطين " و " الدنيا والآخرة " إلخ .
وقد ظنَّ كثيرٌ من الناس صحة هذه التكرارات وظنوا أن هذا من إعجاز القرآن
ولم يفرقوا بين " اللطيفة " و " الإعجاز "
فتأليف كتابٍ يحتوي على عدد معيَّن من ألفاظٍ معيَّنة أمرٌ يستطيعه كل أحدٍ فأين الإعجاز في هذا ؟
والإعجاز الذي في كتاب الله تعالى ليس هو مثل هذه اللطائف
بل هو أمر أعمق وأجل من هذا بكثير وهو الذي أعجز فصحاء العرب
وبلغاءهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سورٍ مثله أو بسورة واحدة
ولقد جرَّ هذا الفعل بعض أولئك إلى ما هو أكثر من مجرد الإحصائيات
فذهب بعضهم يحدد بتلك الأرقام " زوال دولة إسرائيل "
وتعدى آخر إلى " تحديد يوم القيامة "
ومن آخر ما افتروه على كتاب الله تعالى ما نشروه من أن القرآن فيه إشارة إلى " تفجيرات أبراج نيويورك " !
من خلال رقم آية التوبة وسورتها وجزئها وكل ذلك من العبث في كتاب الله تعالى
والذي كان سببه الجهل بحقيقة إعجاز كتاب الله تعالى .
وبعد التدقيق في إحصائيات أولئك الذين نشروا تلك الأرقام وُجد أنهم لم يصيبوا في عدِّهم لبعض الألفاظ
ووجدت الانتقائية من بعضهم في عدِّ الكلمة بالطريقة التي يهواها وكل هذا من أجل أن يصلوا إلى أمرٍ أرادوه وظنوه في كتاب الله تعالى .
قال الشيخ الدكتور خالد السبت :
قدَّم الدكتور " أشرف عبد الرزاق قطنة " دراسة نقدية على الإعجاز العددي في القرآن الكريم وأخرجه في كتاب بعنوان :
" رسم المصحف والإعجاز العددي دراسة نقدية في كتب الإعجاز العددي في القرآن الكريم "
وخلص في خاتمة الكتاب الذي استعرض فيه ثلاثة كتب هي
(1) كتاب " إعجاز الرقم 19 " لمؤلفه باسم جرار
(2) كتاب " الإعجاز العددي في القرآن " لعبد الرزاق نوفل
(3) كتاب " المعجزة " لمؤلفه عدنان الرفاعي وخلص المؤلف
إلى نتيجة عبَّر عنها بقوله :
" وصلت بنتيجة دراستي إلى أن فكرة الإعجاز العددي
" كما عرضتها هذه الكتب "
غير صحيحة على الإطلاق "
كما علينا أن نتعرف على الضوابط المهمة للوصول إلى نتائج سليمة في هذا المنهج العلمي :
يقول الدكتور عبد الله المصلح حفظه الله :
" إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي
وفق الأصول الشرعية المقررة ، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة .
وتكمن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع
وذلك لتميز هذا العصر بالعلم ومكتشفاته
حتى أصبح العلم سمة من سماته .
وهذا الاهتمام من غير سير على ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين
وإسهاما في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط
علها أن تكون مانعا من الوقوع في تلك الأخطاء
وحافزا للكتابة في هذا الموضوع الحيوي .
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له
لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية
التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح .
اضع بين ايديكم موضوعا سابقا تم طرحه
عن الضوابط
وهنا فتوى عن
الإعجاز العددي بين المثبتين والنافين
السؤال
أسأل عن الإعجاز العددي في القرآن الكريم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فكتاب الله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
[فصلت:41-42] .
ويجب أن يصان كتاب الله عن الظنون والأوهام، وقد اتفق أهل العلم على حرمة التفسير بالرأي بلا أثر ولا لغة
وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال عمر وهو على المنبر: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) ثم قال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟
ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر!
وقد ذكر هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه، و ابن القيم في إعلام الموقعين.والذي لا يشك فيه مسلم هو أن القرآن معجز في فصاحته وبلاغته
معجز في علومه ومعارفهلأنه كلام رب العالمين الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً
قال تعالى:(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)
[النساء:166] .
ولكن لا ينبغي أن يتكلف المسلم استخراج بعض العلاقات الرقمية في كتاب الله بدافع الحماسة
وكتاب الله فيه من المعجزات والحقائق ما هو ظاهر بلا تكلف، فقد أخبرنا القرآن عن أحداث من الغيب ماضية
وأحداث من الغيب آتية.
والإعجاز العددي أمر لم يتطرق لبحثه السابقون من العلماء
وقد انقسم الناس اليوم فيه بين مثبت ونافٍ
ونحن نذكر بعض الضوابط التي لا بد منها للخوض في هذا الأمر.
أولاً: موافقة الرسم القرآني.
ثانياً: أن يكون استنباط الإعجاز العددي موافقاً للطرق الإحصائية العلمية الدقيقة دون تكلف أو تدليس.
ثالثاً: الاعتماد على القراءات المتواترة، وترك القراءات الشاذة.
رابعاً: أن يظهر وجه الإعجاز في تلك الأعداد بحيث يعجز البشر عن فعل مثلها لو أرادوا.
والذي نراه هو أن أكثر ما كتب في الإعجاز العددي لا ينضبط بهذه الضوابط.
والله أعلم.
المفتـــي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
المصادر
مجموعة من الفتاوى المهمة
من مواقع الشيوخ الأفاضل
الروابط المفضلة